من رسمة.. إلى قصة

أنت الآن ولي أمر أو معلم، أو مجرد شخص جالس في مكان ما، ودخل عليك طفل ممسك برسمة قد رسمها، ماذا ستفعل؟

تنظر للرسمة وتبدي إعجابك أو استعجابك؟ تثني عليه فقط؟ أم تستغل هذه الفرصة وتحوِّل هذه الخطوط من مجرد رسمة إلى قصة؟

غالبًا ما يصعب على الكبار فهم رسوم الأطفال، خاصة إن كانوا في الفئة العمرية المبكرة، حيث تكون رسومهم مجردة إلى حدٍّ كبير. 

ربما تكون هناك بعض التفاصيل التي لا نستطيع معرفتها إلا بسؤال الطفل نفسه، وعندها ستكتشف أن كل خط ولون هو عنصر مهم وشخصية مميزة، وستدرك أنك أمام أحداث قصة مشوِّقة جدًّا، فلا تترك الرسمة من يدك إلا وقد سألت عن كل هذه التفاصيل: من هذا؟ لماذا رسمته هنا؟ من أين أتى؟ وماذا سيفعل بعد ذلك؟ عندها ستجد نفسك أمام لوحة تصف مشاعر، وتطرح أفكارًا، وتعبر عن شخصية طفل فريدة جدًّا.

لماذا يرسم الأطفال؟

ربما ظهرت إجابة هذا السؤال في الفقرة السابقة، حيث إن رسم الطفل الحر يظهر شخصيته ورؤيته لنفسه وللعالم من حوله، يعبر عن مشاعره فتفهمها وتدعمها، يطرح تساؤلات تدور في عقله فتتعرف على شغفه، وربما يكشف قدرته على إيجاد حلول للمشكلات. يرسم حلمًا يتمنى أن تساعده في تحقيقه، ويُخرج طاقة كبيرة وسط اللعب بالأقلام والألوان، وبالتأكيد يُنمِّي ذلك الكثير من المهارات والقدرات الحسيَّة، ومهارات التأمُّل والتحليل والتركيب والتجريد والتبسيط، والكثير والكثير، ولكن…

كيف تقتل إبداع الأطفال؟

افتح اليوتيوب، اختر رسمة للطفل، واجعله يتبع الخطوات في رسمها. بالفعل، نقل الطفل الرسمة بشكل متقن، وربما تكونان مبهورَيْن وسعيدين بالنتيجة، ولكن ما الاستفادة من ذلك؟ لقد قام الطفل بنقل الصورة مثلما ينقل الحروف الأبجدية. مجرد خطوط منظمة، لا مشاعر، لا أفكار، ولا حتى مجرد أسلوب مميز. لا تحليل، ولا تركيب، ولا تجريد. تحول من طفل مميز بخطوطه إلى آلة تنسخ ما هو أمامها، وربما تعاني في المستقبل من عدم القدرة على الرسم دون أن تمد هذه الآلة بما تنقله، لذا إليك نصيحة: أغلق اليوتيوب، وحاول أن تدعم فطرته، ولكن…

كيف أدعم فطرة الأطفال الفنية؟

قال بياكسو: “يولد جميع الأطفال فنانين، المشكلة هي أن نبقى فنانين خلال نموِّنا”.

لم أسأل: “كيف أدعم موهبة الأطفال”؟ فكل الأطفال فنانون مهما تفاوتت درجة موهبتهم أو مهارتهم، وكل ما هو مرسوم من القلب فن، ولذلك أدعم طفلك بـ…

توفير الخامات والأدوات

هذا لا يعني شراء خامات باهظة الثمن. بالعكس؛ فالبحث عن البدائل هو فن في حدِّ ذاته، حتى إن الطفل يمكن أن يرسم على تراب متراكم على سطح ما، أو على قطعة كرتون قديمة، أو يرسم بإصبعه المبلَّل ببقايا فنجان قهوة بابا، فتوفير الخامات يكمن في ترك مساحة من الحرية له لينطلق، وإن أحببت شراء بعض الخامات، يمكن شراء ما يناسبكم مما يلي: “سبورة- ألوان شمعية- ألوان مائية- ألوان خشبية- ورق ملون- صلصال- مقص آمن- لاصق…”، بما يناسب مرحلته العمرية.

التغذية البصرية

ابدأ مع الطفل بتأمُّل الطبيعة وتحليلها. اُنظرا لشكل الشجرة، لاختلاف ألوان وأحجام الأوراق. ابحثا عن صور لكائنات بحرية، تأمَّلا نقوشها المختلفة، وتعرّف معه على المدارس الفنية، وأساليب الرسم المتنوعة جدًّا، من الواقعية إلى التجريدية. لا يهم معرفة أسماء المدارس، أو حفظ أعمال الفنانين، بل يكفي فقط تذوق تلك الرسوم.

الممارسة

شجِّع طفلك على الممارسة الدائمة للفنون. ويمكن متابعة تحديات معينة، أو مسابقات تعرض مواضيع مقترحة تحفِّزه على الممارسة والتعبير بأسلوبه الخاص. وإن كان لا بد من متابعة بعض الفيديوهات التعليمية، فلتكن من النوع الذي يعلِّمه تقنيات التلوين أو التشكيل بالخامات المختلفة، والذي سيجعل الطفل متمكنًا من مهاراته، وبنفس الوقت يعبر عن فنه بأسلوبه.

التشجيع

شجِّع طفلك دائمًا بالتمعُّن في رسومه وأعماله، وقم بإبداء ملاحظاتك على التفاصيل، واشترِ له أدوات جديدة إذا قام بعمل مميز، فأنا لم أدرك أني أحب الفنون إلا عندما أهداني معلمي علبة ألوان مميزة.

التوثيق

قم بتوثيق وحفظ أعمال طفلك. يمكنك إخراج وتعليق بعض الرسوم على حوائط المنزل، كما يمكن الاحتفاظ بها في ملف خاص به. إذا شعرت أن الأوراق تتراكم ولم يعد هناك متَّسع للمزيد، أو أن هناك بعض الأعمال الفنية غير دائمة، كالتي تُرسم على السبورة، قم بتصوير الأعمال وحفظها في ملف رقمي، أو بألبوم خاص على منصات التواصل، وبمرور الوقت ستلاحظ تغيُّر سمات طفلك الفنية من مرحلة إلى أخرى.

لا أريد الرسم

يُسمى ذلك بـ “art block”، وهو شعور يصيب الكبار والصغار، وحتى كبار الفنانين. بدون أسباب أشعر وكأنني لست قادرًا على الرسم، ولا أريد أن أرسم! أمسك القلم ولا أفعل شيئا! فماذا أفعل إذا أصيب طفلي بهذا “البلوك”؟! 

يمكن أن تقترح عليه استخدام خامة مختلفة، فمثلًا إذا كان يرسم بالألوان، فليجرِّب التشكيل بالصلصال، وإذا كان قد ملَّ من القصّ واللصق، فليجرِّب الرسم الرَّقْمي. وإلى جانب تجربة خامة جديدة، يمكنه الرسم في مكان جديد، كالخروج لحديقة، أو الرسم في أي مكان مفتوح.

سمات رسوم الأطفال

حاول أن تتعرف على بعض سمات رسوم الأطفال، وأن تطورها حسب المراحل المختلفة، فلكل مرحلة سمات تَعرِف من خلالها إذا كان الطفل متقدّمًا عن مرحلته، أم أن خطوطه مناسبة لتلك المرحلة. 

تتسم رسوم الأطفال بـ:

– التكرار: فهو يرسم مثلًا عشر سحب وخمسة عصافير، وعندما يتقن رسم فراشة تجدها تزين كل لوحاته.

الشفافية: يرسم السمك داخل البحر حتى  لو لم يكن ظاهرًا؛ “فالطفل يرسم ما يعرفه، لا ما يراه”.

المبالغة: فمثلًا، تجد في رسمه بابا ضخمًا جدًّا بحجم عملاق، وربما تجد شخصًا آخر صغيرًا بحجم نملة.

الحذف: تقل التفاصيل في رسم الأطفال، وربما يكون للحذف دلالة نفسية، وربما لا، ولكن كلما زاد إدراك الطفل العقلي، زادت تفاصيله في الرسم.

التجريد: بأبسط الخطوط ستجد طفلك يرسم أسدًا ويميزه فقط باللِّبدة، وفيلًا مميزًا بخرطوم، وذلك بتجريد لا يقدر كبار الفنانين الوصول إليه بسهولة.

التسطيح: لا يدرك الطفل المنظور والأبعاد، فيرسم الطاولة كمربع تخرج منه أربعة خطوط، وينطبق هذا على أي شكل ثلاثي الأبعاد، يحوِّله لشكل مسطح بوجهة نظره المميزة.

 الفنان الصغير

الآن وقد فهمت طفلك ورسومه، وشجَّعته على الرسم الحر والتلقائية، وكان دورك فقط دورًا تشجيعيًّا وتوجيهيًّا، ووفرت له- قدر المستطاع- بيئة محفِّزة على الإبداع، كيف انتقل من مرحلة الرسمة إلى القصة؟

إذا جاءك الطفل برسمة فاسأله أسئلة من نوع: ما هذا؟ ماذا يفعل؟ لماذا اخترته؟ 

اسمع القصة، ويمكنك أن تسجلها بشكل صوتي أو فيديو.

يمكنك أن تقترح عليه عمل مشاهد أخرى بالقصة.

يمكن تخصيص دفتر صغير لرسم قصة كاملة متتابعة، أو قص ورقة وتدبيسها في شكل كتاب صغير، أو تقسيم الصفحة الواحدة على شكل كوميكس متعدد المشاهد.

اطلب منه أن يصمم غلافًا مميزًا لقصته، ويكتب عليها عنوان القصة، واسم الكاتب، واسم الرسام “اسمه J”.

من رسمة لقصة… ومن قصة لرسمة

يمكن أن تكون الرسمة هي الشرارة الأولى لإبداع الطفل، ويمكن أن يبدأ بالقصة ويحكيها ويسرد أحداثها ثم يرسمها.

إذا طلبت منه أن يفكر في شكل شخصية ما، في مكان ما، وزمان ما، سيرسم شكل الشخصية المميزة، وسيعيش مع تفاصيلها عند وصفها، ومنها ينطلق إلى عالم جديد وقصة جديدة.

لا تقرأ الرسمة وحدك

أعرض عليكم هذا الموقف الطريف:

“في إحدى المدارس بالبرازيل، طلبت المعلمة من التلاميذ رسم العائلة، وبعدما رأت رسم أحد التلاميذ، وبدون سؤاله، تم إعلان حالة استنفار في المدرسة، وتم استدعاء والدة التلميذ على وجه السرعة، وكان جواب الأم: صحيح! لقد قمنا برحلة غوص في العطلة، لو سألتم ولدي لشرح لكم رسمته”.

لذا، قبل أن تفسر أي رسمة لطفل حسب رؤيتك، وتنسج داخل عقلك تفسيرات وتحليلات، حاول أن تسأل الطفل وتناقشه، وبالتأكيد ستسمع منه وتستمتع معه بقصة مشوِّقة للغاية.