كيف غيَّرتهم الكتب؟

الأمر كله كان مصادفة!

في الأسبوع الأول لعملي في المدرسة الإعدادية كمعلم، كانت روحي تقاتل كي أكون معلمًا مختلفًا. بدأت أراقب الطلاب.. فيمَ يتحدّثون؟ ما الذي يسعدهم؟ ما نوع الموسيقى التي يستمعون إليها؟ من نجوم السينما المفضَّلون لديهم؟ ما الذي يُضحكهم؟ كيف يلبسون؟ كيف يحتفلون؟ كيف؟ وماذا؟ ولماذا؟ ومن؟ وأين؟ تساؤلات عديدة كنت أسألها لنفسي، وأحاول أن أستخلص الإجابات عنها بواقعية شديدة. 

مع قرب نهاية الفصل الدراسي الأول، كنت مقرَّبًا جدًّا من طلابي.. ألعب معهم الكرة في حصة التربية الرياضية.. أنظم لهم الرحلات.. أكتب لهم الأمثلة على دروس القواعد اللغوية التي تحتوي على أسماء لاعبي الكرة المفضَّلين لديهم.. أفتح نقاشًا بيني وبينهم عن حلقات الأنيميشن الشهيرة، ومباريات كرة القدم، وبرشلونة وريال مدريد، ومحمد صلاح وليونيل ميسي. أفتح لهم قلبي، وأحكي لهم عن الجامعة ونادي الأدب، ورحلات الأقصر وأسوان، وحفلات الجوَّالة والسَّمر. 

بعد قليل من بداية الفصل الدراسي الثاني أصبحنا أصدقاء.. يتواصلون معي عبر الهاتف.. في العيد يأتون في الصباح الباكر يحملون الحلوى وشيبسي الطماطم الذي أحبه.. في رمضان يمرون ليصطحبوني إلى التراويح.. يوم الجمعة يأخذني أحدهم وراءه على الموتوسيكل إلى ملعب الكرة الخماسي بعد صلاة العشاء، وفي الرحلات يتسابقون في إهدائي ساندويتشات الجبنة الرومي التي أعشقها. 

بحثوا عن تاريخ عيد ميلادى واحتفلوا به، وعندما فزت بجائزة في الكتابة الأدبية احتفلوا بي في الطابور، وأهدوني وردًا وشيكولاتة باهظة الثمن؛ لأننا ببساطة…”صرنا أصدقاء”.

ذات حصة

كان الدرس صعبًا.. شرحته مرة تلو مرة، ولكن الأمر كان صعبًا؛ فقررت أن أغير الأجواء، فتركت الدرس، وقمت ببساطة برسم شخص سمين، بشعر منتصب، وذراعين طويلين، وحذاء ضخم، وإلى جواره شخص نحيف جدًّا، بشعر طويل وحذاء صغير. كان الشخصان نقيضين تمامًا.. أطلقت على الأول “تيخة” وعلى الثاني “بطيخة”. لم أكن قد خططت لذلك، وحدث الأمر بتلقائية شديدة، لدرجة أنني حينما فكرت في الأمر فيما بعد، اعتبرته تصرفًا ذهنيًّا خارجًا عن السيطرة؛ لمحاولة الخروج من أزمة عدم فهم الطلاب للدرس، وكان رأسي يحاول مساعدتي.  

بعدما انتهيت من الرسم والتفتُّ إلى الطلاب، وجدتهم يتماسكون بصعوبة، ويحاولون أن يمنعوا أنفسهم من الضحك؛ فقلت لهم: “لماذا تكتمون الضحك؟ اضحكوا، لن أعاقب على الضحك أبدًا”.  

انفجر طلاب الفصل ضحكًا وهم ينظرون إلى “تيخة” و”بطيخة”، وبعدها وجدت نفسي أختلق لهذا الـ”تيخة” وذاك الـ”بطيخة” حكاية مضحكة، كلما تماديت، ازداد ضحكهم، وبدون مقدمات وجدتني أعيد شرح الدرس باستخدام شخصيَّتي “تيخة” و”بطيخة”؛ فتغير الوضع. الكثير بدأ يستجيب، والبعض طلب إعادة الشرح، ومع نهاية الدرس تغيَّر الوضع، وتقريبًا كانت الأغلبية قد استوعبت الدرس. 

حقًّا.. للحكايات سحر

كرَّرت التجربة، وقرَّرت أن يكون لنا صديقان طوال العام.. “تيخة” و”بطيخة”. جعلت منهما بطلين مضحِكَين، وكتبت الدروس من وجهة نظر “تيخة” و”بطيخة”، وحكيا للطلاب دروسًا كثيرة عن طريق المواقف الكوميدية، حتى جاءني في حجرة المدرسين ذات يوم أحد طلابي قائلًا: “أريد كتابًا به حكايات مثل حكايات تيحة وبطيخة”.

استفزَّني الطلب جدًّا، وفي اليوم التالي، وضعت في حقيبتي- وسط الدفاتر والأوراق- كتابًا صغيرًا مترجمًا اسمه “خدُّومة هانم”، يحكي عن فتاة صغيرة اسمها “خدُّومة”، تخدم الناس دون أن يطلبوا منها ذلك، وأثناء مساعدتها تتعرض وتُعرِّض أصدقاءها لمواقف كوميدية صاخبة. 

أعطيت الطالب الكتاب بشرط أن يقرأه، ثم في اليوم التالي يقف أمام الفصل ويحكيه. وافق على الفور وهو منجذب للكتاب وغلافه الملون الجميل، وعليه صورة “خدُّومة” المضحكة. 

فى اليوم التالي، وقف أمام الفصل وحكى الحكاية وهو يضحك من قلبه، وضحك الجميع من القلب، وضحِكْتُ ودمعت عيناى عند رؤيتهم سعداء. هم في المرحلة الإعدادية، ولكن قلوبهم غضَّة، ويحتاجون إلى الحكايات والونس والضحك الصافي. يحتاجون إلى من يفهم فقط “ماذا يريدون”. 

الكتاب صار كتبًا، والحَكْيُ أصبح طقسًا من طقوس حصصي في الفصل. الغائبون عن المدرسة وصلتهم الأخبار”.. في المدرسة حَكْيٌ وضحك مع التعليم. حضر الغائبون وامتلأ الفصل، وتحوَّل الكثير منهم إلى المكتبة يسألون عن كتب الحكايات، ثم المغامرات، ثم تبسيط العلوم، ثم التاريخ والحروب والسير. بدأوا يسألون عن معرض الكتاب ومواعيده، وعن عناوين المكتبات التي تبيع الكتب، ومواسم التخفيضات. 

اتصال.. وطلب زيارة

بعد سنوات جاءني اتصال عرَّفني خلاله المتصل بنفسه، وأنه كان أحد طلابي في المدرسة التي عملت فيها في بداية عملي منذ وقت طويل. ذكَّرنى بـ”تيخة” و”بطيخة”، وسأل عنهما، وهل ما زلت أحكي عنهما، وأحكي بهما الدروس؟ تذكرته.. كان طالبًا صامتًا معظم الوقت، غير مشارك في أي نشاط كنا نقوم به، وكان دائم العزلة بلا أصدقاء. لم تتغير طبيعته إلا عندما وجد “تيخة” و”بطيخة”. ضحك من قلبه وتفاعل وشارك، وذهب إلى المكتبة، وزار معرض الكتاب، واستعار مني مجلات العربي وماجد وعلاء الدين. 

كان يتصل بي ليخبرني أنه في السنة الثانية بالجامعة، وأنه كتب أول رواية من تأليفه، وقد وافقت دار نشر على نشرها. كدت ألمس السماء بعنقي وأنا أستمع إليه وهو يحكي عني وعن تجربة تيخة وبطيخة، وأن الحكايات كانت السبب في أن تتغير شخصيته، وأن الحكايات أخذته من أطراف قلبه إلى المكتبات ومعارض الكتب والتجمعات الأدبية. 

طلب زيارتي لإهدائي نسخة من الرواية، فوافقت فورًا.

عندما تقابلنا فتح لي بابًا سحريًّا على الماضي، وعن تجربة الحكايات والكتب التي جرَرْتُهم إليها، وكيف أن عددًا كبيرًا منهم اهتمّ بالعلوم والآدب والآثار والسفر؛ بسبب الكتب التي كنت أرشحها لهم، وكيف أنهم تغيروا وتغيرت طموحاتهم وأحلامهم بسبب الكتب والقراءة. 

طلبت أن أقابلهم، وقابلتهم في معرض الكتاب. أصبحوا بشرًا مختلفين.. تغيَّرت طرائق تفكيرهم ونظرتهم للأمور، واكتشفت أن عالمهم أصبح أكثر اتساعًا، وأنهم أصبحوا قرَّاء بشكل غير عادي، وأصبحت معارض الكتب ملجأهم. 

عدت إلى البيت.. دخلت حجرتي.. نظرت إلى مكتبتي الضخمة، وإلى الكتب على الأرفف، ووددت أن أُقبِّل كل كتاب فيها. كسبت الرهان.. الكتب والقراءة في أحيان كثيرة جدًّا يحدثان الفرق والتغيير.